الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الجهاد مصدر جاهد، وهو من الجهد - بفتح الجيم وضمّها - أي الطّاقة والمشقّة، وقيل: الجهد - بفتح الجيم - هو المشقّة، وبالضّمّ الطّاقة. والجهاد القتال مع العدوّ كالمجاهدة، قال تعالى: {وجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}. وفي الحديث الشّريف: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة». يقال: جاهد العدوّ مجاهدة وجهاداً إذا قاتله. وحقيقة الجهاد كما قال الرّاغب: المبالغة واستفراغ الوسع في مدافعة العدوّ باليد أو اللّسان. أو ما أطاق من شيء، وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدوّ الظّاهر، والشّيطان، والنّفس. وتدخل الثّلاثة في قوله تعالى: {وجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}. وقال ابن تيميّة: الجهاد إمّا أن يكون بالقلب كالعزم عليه، أو بالدّعوة إلى الإسلام وشرائعه، أو بإقامة الحجّة على المبطل، أو ببيان الحقّ وإزالة الشّبهة، أو بالرّأي والتّدبير فيما فيه نفع المسلمين، أو بالقتال بنفسه. فيجب الجهاد بغاية ما يمكنه. قال البهوتيّ: ومنه هجو الكفّار. كما كان حسّان رضي الله عنه يهجو أعداء النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والجهاد اصطلاحاً: قتال مسلم كافراً غير ذي عهد بعد دعوته للإسلام وإبائه، إعلاء لكلمة اللّه.
أ - السّير: 2 - السّير جمع سيرة وهي فعلة بكسر الفاء من السّير. وقد غلبت في لسان الفقهاء على الطّرائق المأمور بها في غزو الكفّار، وما يتعلّق بها، كغلبة لفظ (المناسك) على أمور الحجّ. وقد سمّيت المغازي سيراً، لأنّ أوّل أمورها السّير إلى العدوّ، والمراد بها سير الإمام ومعاملاته مع الغزاة، والأنصار، ومنع العداة والكفّار. ب - الغزو: 3 - الغزو معناه الطّلب، يقال: ما مغزاك من هذا الأمر أي ما مطلبك، وسمّي الغازي، غازياً لطلبه الغزو. ويعرف كتاب الجهاد في غير كتب الفقه بكتاب المغازي، وهو أيضاً أعمّ، لأنّه جمع مغزاة مصدر لغزا، إنزالا على الوحدة، والقياس غزو، وغزوة للوحدة، كضربة وضرب، وهم قصد العدوّ للقتال، خصّ في عرف الشّارع بقتال الكفّار. ج - الرّباط: 4 - الرّباط هو الإقامة في مكان ليس وراءه إسلام، ويتوقّع هجوم العدوّ منه لقصد دفعه للّه تعالى. والرّباط تأهّب للجهاد، والأحاديث في فضله كثيرة منها: ما في صحيح مسلم من حديث سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الّذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان». ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح: (رباط).
5 - الجهاد مشروع بالإجماع، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَليكُم القِتَالُ} إلى غير ذلك من الآيات، ولفعله صلى الله عليه وسلم وأمره به . وأخرج مسلم: «من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من نفاق». وقد كان الجهاد في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة غير مأذون فيه، لأنّ الّذي أمر به صلى الله عليه وسلم أوّل الأمر هو التّبليغ والإنذار، والصّبر على أذى الكفّار، والصّفح والإعراض عن المشركين، وبدأ الأمر بالدّعوة سرّاً ثمّ جهراً. قال اللّه تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ} وقال أيضاً: {ادْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُمْ بالَّتِي هي أَحْسَنُ} وقال أيضاً: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ وأَعْرِضْ عن المُشْرِكِينَ} ثمّ أذن اللّه بعد ذلك للمسلمين في القتال إذا ابتدأهم الكفّار بالقتال، وكان ذلك في السّنة الثّانية من الهجرة. وذلك في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأنَّهُمْ ظُلِمُوا}. ثمّ شرع اللّه الابتداء بالقتال على الإطلاق بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافَاً وثِقَالاً} وقوله: {وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كَافَّةً} وتسمّى هذه آية السّيف، وقيل: هي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيثُ وَجَدتمُوهُمْ}. وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه وحسابه على اللّه». والفقهاء على أنّه ينبغي أن لا يترك الجهاد كلّ سنة مرّة على الأقلّ. ومعنى ذلك أن يوجّه الإمام كلّ سنة طائفة، ويزجّ بنفسه معها أو يخرج بدله من يثق به، ليدعو الكفّار للإسلام، ويرغّبهم فيه، ثمّ يقاتلهم إذا أبوا، لأنّ في تعطيله أكثر من سنة ما يطمّع العدوّ في المسلمين. فإن دعت الحاجة في السّنة إلى أكثر من مرّة وجب، لأنّه فرض على الكفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه، فإن دعت الحاجة إلى تأخيره لضعف المسلمين، أو قلّة ما يحتاج إليه في قتالهم من العدّة، أو المدد الّذي يستعين به، أو يكون الطّريق إليهم فيها مانع، أو ليس هنا مؤن، أو للطّمع في إسلامهم ونحو ذلك من الأعذار، جاز تأخيره، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً عشر سنين»، وأخّر قتالهم حتّى نقضوا الهدنة، وأخّر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة، ولأنّه إذا كان يرجى من النّفع بتأخيره أكثر ممّا يرجى من النّفع بتقديمه وجب تأخيره. فإذا لم يوجد ما يدعو إلى تأخير الجهاد فإنّه يستحبّ الإكثار منه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل اللّه ثمّ أحيا، ثمّ أقتل ثمّ أحيا، ثمّ أقتل». وروي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم غزا سبعاً وعشرين غزوة، وبعث خمساً وثلاثين سريّة».
6 - فضل الجهاد عظيم، وحاصله بذل الإنسان نفسه ابتغاء مرضاة اللّه تعالى، وتقرّبا بذلك إليه سبحانه وتعالى. ولقد فضّل اللّه المجاهدين على القاعدين في قوله عزّ وجلّ: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً}. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. وقد جاء أنّه صلى الله عليه وسلم جعله أفضل الأعمال بعد الإيمان في حديث أبي هريرة قال: «سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أيّ العمل أفضل؟ قال: إيمان باللّه ورسوله. قيل: ثمّ ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل اللّه». وأفضل ما يتطوّع به الجهاد، وقد قال أحمد بن حنبل: لا أعلم شيئاً بعد الفرائض أفضل من الجهاد، وقد روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه. قال أحمد: الّذين يقاتلون العدوّ هم الّذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأيّ عمل أفضل منه؟ النّاس آمنون وهم خائفون، قد بذلوا مهج أنفسهم. والأحاديث متظاهرة بذلك: فعن أبي هريرة «أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: دلّني على عمل يعدل الجهاد، قال: لا أجده، ثمّ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟». وعن أبي هريرة أيضاً قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل المجاهد في سبيل اللّه - واللّه أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصّائم القائم، وتوكّل اللّه للمجاهد في سبيله، بأن يتوفّاه أن يدخله الجنّة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة». وعن أنس بن مالك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يموت له عند اللّه خير يسرّه أن يرجع إلى الدّنيا، وأنّ له الدّنيا وما فيها إلاّ الشّهيد لما يرى من فضل الشّهادة، فإنّه يسرّه أن يرجع إلى الدّنيا فيقتل مرّة أخرى». وعن بسر بن سعيد قال: حدّثني زيد بن خالد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من جهّز غازياً في سبيل اللّه فقد غزا، ومن خلف غازياً بخير فقد غزا». وهذه الأحاديث وغيرها تتضافر على بيان فضل الجهاد. وقد صرّح الحنابلة: بأنّ الجهاد في البحر أفضل من الجهاد في البرّ، «لحديث أمّ حرام أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نام عندها، ثمّ استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال: ناس من أمّتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل اللّه يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرّة أو مثل الملوك على الأسرّة». ولأنّ البحر أعظم خطراً ومشقّة، فإنّه بين العدوّ، وفيه خطر الغرق، ولا يتمكّن من الفرار إلاّ مع أصحابه، فكان أفضل من غيره. وكذلك القتال مع أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم، لأنّهم يقاتلون عن دين، ويؤيّده حديث أمّ خلّاد من قوله صلى الله عليه وسلم: «ابنك له أجر شهيدين، قالت: ولم ذاك يا رسول اللّه؟ قال: لأنّه قتله أهل الكتاب».
7 - الجهاد فرض في الجملة، والدّليل على فرضيّته قوله عزّ وجلّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}، وقوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الجهاد ماض منذ بعثني اللّه إلى أن يقاتل آخر أمّتي الدّجّال». والمراد - واللّه أعلم - أنّه فرض باق، لأنّ المضيّ معناه النّفاذ، والنّفاذ إنّما هو في الفرض من الأحكام، فإنّ النّدب والإباحة لا يجب فيهما الامتثال والنّفاذ. وقد نقل عن ابن عبد البرّ أنّ الجهاد فرض كفاية مع الخوف، ونافلة مع الأمن. 8- ثمّ اختلف القائلون بالفرضيّة: فذهب الجمهور إلى أنّه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وهو كسر شوكة المشركين، وإعزاز الدّين. ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض إليه قوم يكفون في جهادهم، إمّا أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك، أو يكونوا أعدّوا أنفسهم له تطوّعاً بحيث إذا قصدهم العدوّ حصلت المنعة بهم، ويكون في الثّغور من يدفع العدوّ عنها، ويبعث في كلّ سنة جيشا يغيرون على العدوّ في بلادهم. وفرض الكفاية: ما قصد حصوله من غير شخص معيّن، فإن لم يوجد إلاّ واحد تعيّن عليه، كردّ السّلام، والصّلاة على الجنازة. فإذا لم يقم بالواجب من يكفي، أثم النّاس كلّهم. واستدلّوا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ}. واستدلّوا كذلك بقوله تعالى: {فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً}. واستدلّوا لذلك بأنّ الجهاد ما فرض لعينه، وإنّما فرض لإعزاز دين اللّه، ودفع الشّرّ عن العباد. والمقصود أن يأمن المسلمون، ويتمكّنوا من القيام بمصالح دينهم ودنياهم. فإذا اشتغل الكلّ بالجهاد لم يتفرّغوا للقيام بمصالح دنياهم. وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تارة يخرج، وتارة يبعث غيره، حتّى قال: «والّذي نفسي بيده، لولا أنّ رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عنّي، ولا أجد ما أحملهم عليهم، ما تخلّفت عن سريّة تغدو في سبيل اللّه». فهذا يدلّ على أنّ القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، فقد وعد اللّه كلّا الحسنى، والعاصي لا يوعد بها، ولا تفاضل بين مأجور ومأزور. وروى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان، وقال: ليخرج من كلّ رجلين رجل، ثمّ قال للقاعدين: أيّكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج». وقال سعيد بن المسيّب: إنّ الجهاد من فروض الأعيان. لقوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}. وقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}. وقول الرّسول صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز، ولم يحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من نفاق». وأنّ القاعدين الموعودين بالحسنى كانوا حرّاساً، أي كانوا من هذين كذلك.
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يصير الجهاد فرض عين في كلّ من الحالات الآتية: أ - إذا التقى الزّحفان، وتقابل الصّفّان، حرّم على من حضر الانصراف، وتعيّن عليه المقام، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ}... إلى قوله: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. ب - إذا هجم العدوّ على قوم بغتة، فيتعيّن عليهم الدّفع ولو كان امرأة أو صبيّاً، أو هجم على من بقربهم، وليس لهم قدرة على دفعه، فيتعيّن على من كان بمكان مقارب لهم أن يقاتلوا معهم إن عجز من فجأهم العدوّ عن الدّفع عن أنفسهم، ومحلّ التّعيّن على من بقربهم إن لم يخشوا على نسائهم وبيوتهم من عدوّ بتشاغلهم بمعاونة من فجأهم العدوّ، وإلاّ تركوا إعانتهم. وعند الشّافعيّة يعتبر من كان دون مسافة القصر من البلدة كأهلها، ومن على المسافة يلزمه الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها، ومن يليهم. وأمّا من لم يفجأهم العدوّ فلا يتعيّن عليهم، يستوي في ذلك المقلّ منهم والمكثر. ومعناه: أنّ النّفير يعمّ جميع النّاس ممّن كان من أهل القتال حين الحاجة لمجيء العدوّ إليهم، ولا يجوز لأحد التّخلّف إلاّ من يحتاج إلى تخلّفه لحفظ المكان والأهل والمال، ومن يمنعه الأمير من الخروج، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال. وقد ذمّ اللّه تعالى الّذين أرادوا الرّجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب فقال: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}. ج - إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النّفير معه إلاّ من له عذر قاطع، لقول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا». وذلك لأنّ أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرّعيّة طاعته فيما يراه من ذلك. ونصّ المالكيّة على أنّه يتعيّن الجهاد بتعيين الإمام ولو لصبيّ مطيق للقتال أو امرأة، وتعيين الإمام إلجاؤه إليه وجبره عليه، كما يلزم بما فيه صلاح حاله، لا بمعنى عقابه على تركه، فلا يقال: إنّ توجّه الوجوب للصّبيّ خرق للإجماع.
10 - القصد من الجهاد دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، أو الدّخول في ذمّة المسلمين ودفع الجزية، وجريان أحكام الإسلام عليهم، وبذلك ينتهي تعرّضهم للمسلمين، واعتداؤهم على بلادهم، ووقوفهم في طريق نشر الدّعوة الإسلاميّة، وينقطع دابر الفساد، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}. وقال عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. وقد مضت سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسيرته، وسيرة الخلفاء الرّاشدين من بعده على جهاد الكفّار، وتخييرهم بين ثلاثة أمور مرتّبة وهي: قبول الدّخول في الإسلام، أو البقاء على دينهم مع أداء الجزية، وعقد الذّمّة. فإن لم يقبلوا، فالقتال. ولا ينطبق هذا على مشركي العرب، على تفصيل وخلاف ينظر في مصطلحي: (جزية، وأهل الذّمّة).
أ - إذن الوالدين: 11 - لا يجوز الجهاد إلاّ بإذن الأبوين المسلمين، أو بإذن أحدهما إن كان الآخر كافراً، إلاّ إذا تعيّن، كأن ينزل العدوّ بقوم من المسلمين، ففرض على كلّ من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم، أذن الأبوان أم لم يأذنا، إلاّ أن يضيعا، أو أحدهما بعده، فلا يحلّ له ترك من يضيع منهما، لما روى عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد». فدلّ على أنّ برّ الوالدين مقدّم على الجهاد. ولأنّ الأصل في الجهاد أنّه فرض على الكفاية ينوب عنه غيره فيه، وبرّ الوالدين فرض يتعيّن عليه، لأنّه لا ينوب عنه فيه غيره، ولهذا قال رجل لابن عبّاس رضي الله عنه: إنّي نذرت أن أغزو الرّوم، وإنّ أبويّ منعاني، فقال: " أطع أبويك فإنّ الرّوم ستجد من يغزوها غيرك ". وروي نحو هذا عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، وبه قال الأوزاعيّ والثّوريّ، وسائر أهل العلم. وأمّا إن كان الأبوان كافرين أو أحدهما، فيرى جمهور الفقهاء أنّه يجوز أن يجاهد من غير إذنهما، لأنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون، وفيهم من له أبوان كافران من غير استئذانهما، منهم أبو بكر الصّدّيق وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبوه رئيس المشركين. ولأنّ الكافر متّهم في الدّين بالمنع من الجهاد لمظنّته قصد توهين الإسلام. وقال الحنفيّة، وهو ما صرّح باستثنائه بعض المالكيّة: إنّه لا يخرج إلاّ بإذن الأبوين الكافرين أو أحدهما إذا كره خروجه مخافة ومشقّة، وأمّا إذا كان لكراهة قتال أهل دينه فلا يطيعه ما لم يخف عليه الضّيعة. إذ لو كان معسراً محتاجاً إلى خدمته فرضت عليه ولو كافرا، وليس من الصّواب ترك فرض عين ليتوصّل إلى فرض كفاية، وبهذا قال الثّوريّ لعموم الأخبار. وإن لم يكن له أبوان وله جدّ أو جدّة لم يجز أن يجاهد من غير إذنهما، لأنّهما كأبوين في البرّ، ولو أذن له جدّه لأبيه وجدّته لأمّه، ولم يأذن له أبو الأمّ وأمّ الأب، فصرّح الحنفيّة بأنّه لا بأس بخروجه، لقيام أبي الأب وأمّ الأمّ مقام الأب والأمّ عند فقدهما، والآخران كباقي الأجانب إلاّ إذا عدم الأوّلان. وإن كان له أب وجدّ، أو أمّ وجدّة، فذهب الشّافعيّة في الأصحّ وهو رأي عند الحنابلة، إلى أنّه يلزمه استئذان الجدّ مع الأب، واستئذان الجدّة مع الأمّ، لأنّ وجود الأبوين لا يسقط برّ الجدّين، ولا ينقص شفقتهما عليه. والمذهب عند الحنابلة وهو قول لدى الشّافعيّة أنّه لا يلزمه، لأنّ الأب والأمّ يحجبان الجدّ والجدّة عن الولاية والحضانة. وإنّما يجب استئذان الأبوين في الجهاد إذا لم يكن متعيّناً، ولكن إذا تعيّن عليه الجهاد فلا إذن لهما من غير خلاف بين الفقهاء، لأنّه صار فرض عين، وتركه معصية، ولا طاعة لأحد في معصية اللّه. قال الأوزاعيّ: لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض، والجمع، والحجّ، والقتال، لأنّها عبادة تعيّنت عليه فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصّلاة.
12 - من خرج للجهاد بإذن الوالدين، ثمّ رجعا عن الإذن، أو كان الأبوان كافرين، فأسلما بعد الخروج ولم يأذنا، وعلم المجاهد الحال، يلزمه الانصراف إن لم يشرع في القتال، ولم يحضر الوقعة عند الشّافعيّة في المشهور، والحنابلة، إلاّ أن يخاف على نفسه أو ماله، أو يخاف انكسار قلوب المسلمين، فلا يلزمه. فإن لم يمكنه الانصراف للخوف، وأمكنه أن يقيم في قرية في الطّريق حتّى يرجع الجيش، لزمه أن يقيم. وعند الشّافعيّة قول آخر: وهو أنّه لا يلزمه الانصراف. وإن علم بعد الشّروع في القتال، قال الشّافعيّة في الأصحّ: يحرم الانصراف، وتجب المصابرة، لعموم الأمر بالثّبات، ولانكسار القلوب بانصرافه، والثّاني: لا يحرم، بل يجب الانصراف، والثّالث: يخيّر بين الانصراف والمصابرة. وإن أحاط العدوّ بالمسلمين تعيّن فرض الجهاد، وسقط الإذن، لأنّ ترك الجهاد في هذه الحالة يؤدّي إلى الهلاك، فقدّم على حقّ الأبوين. وإن أذن له والداه في الغزو وشرطا عليه أن لا يقاتل، فحضر القتال، تعيّن عليه القتال وسقط شرطهما. وبذلك قال الأوزاعيّ وابن المنذر، لأنّه صار واجبا عليه، فلم يبق لهما في تركه طاعة، ولو خرج بغير إذنهما فحضر القتال، ثمّ بدا له الرّجوع لم يجز له ذلك. ب - إذن الدّائن: 13 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يخرج المدين للجهاد إذا كان الدّين حالّا، واختلفوا فيما وراء ذلك على أقوال: فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يخرج المدين بغير إذن غريمه ولو لم يكن له وفاء، لأنّه يتعلّق به حقّ الغريم وهو الملازمة، فلو أذن له الدّائن، ولم يبرّئه، فالمستحبّ الإقامة لقضاء الدّين، لأنّ البدء بالأوجب أولى، فإن خرج فلا بأس، وكذلك حكم الكفيل إذا كان بأمر الدّائن، ويستوي في وجوب الاستئذان، الكفيل بالمال والكفيل بالنّفس. وأمّا إذا كان الدّين مؤجّلاً فله الخروج بلا إذن إن علم برجوعه قبل حلوله، لعدم توجّه المطالبة بقضاء الدّين، لكن الأفضل الإقامة لقضائه. وعند المالكيّة يشترط الإذن في الدّين الحالّ إذا كان يقدر على وفائه ببيع ما عنده، وإن لم يكن قادرا على ذلك، أو كان مؤجّلاً ولا يحلّ في غيبته خرج بغير إذن الدّائن، فإن حلّ في غيبته، وعنده ما يوفّي منه، وكلّ من يقضيه عنه. وقال الشّافعيّة: إنّه لا يخرج المدين في الدّين إذا كان حالّا إن لم يكن معسراً، أي كان له وفاء، وكذلك إن لم يكن له وفاء في قول. والصّحيح أنّه ليس له منعه إذا كان معسراً إذ لا مطالبة في الحالّ. وإن كان الدّين مؤجّلاً، فالأصحّ أنّه لا يجوز المنع، والثّاني: يجوز إلاّ أن يقيم كفيلا بالدّين. والثّالث: له المنع إن لم يخلّف وفاء، وقيل: يجوز للدّائن أن يمنع إن كان الدّين يحلّ قبل رجوعه. وعند الحنابلة لا يجوز الخروج سواء أكان الدّين حالّا أم مؤجّلا بغير إذن غريمه إلاّ أن يترك وفاء، أو يقيم به كفيلاً أو يوثّقه برهن، لما روي «أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه: أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه أتكفّر عنّي خطاياي؟ قال: نعم إن قتلت وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلاّ الدّين، فإنّ جبريل عليه السلام قال لي ذلك». ولأنّ «عبد اللّه بن حرام والد جابر الصّحابيّ المعروف خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد، وقضاه عنه ابنه مع علم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير نكير، بل مدحه، وقال: ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتّى رفعتموه. وقال لابنه جابر: أفلا أبشّرك بما لقي اللّه به أباك؟ ما كلّم اللّه أحداً قطّ، إلاّ من وراء حجاب، وأحيا أباك وكلّمه كفاحاً» ولأنّ الجهاد تقصد منه الشّهادة الّتي تفوت بها النّفس، فيفوت الحقّ بفواتها. وأمّا إذا تعيّن الجهاد فلا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا إذن لغريمه، لأنّه تعلّق بعينه، فكان مقدّماً على ما في ذمّته كسائر فروض الأعيان. وصرّح الحنابلة بأنّه يستحبّ له أن لا يتعرّض لمظانّ القتل من المبارزة، والوقوف في أوّل المقاتلة، لأنّ فيه تغريراً بتفويت الحقّ، بل يقف وسط الصّفّ أو حاشيته حفظا للدّين. ج - إذن الإمام: 14 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يكره الغزو من غير إذن الإمام أو الأمير المولّى من قبله، لأنّ الغزو على حسب حال الحاجة، والإمام أو الأمير أعرف بذلك، ولا يحرم، لأنّه ليس فيه أكثر من التّغرير بالنّفس، والتّغرير بالنّفس يجوز في الجهاد. ولأنّ أمر الحرب موكول إلى الأمير، وهو أعلم بكثرة العدوّ وقلّتهم، ومكامن العدوّ وكيدهم، فينبغي أن يرجع إلى رأيه، لأنّه أحوط للمسلمين، ولأنّه إذا لم تجز المبارزة إلاّ بإذنه فالغزو أولى، إلاّ أن يفجأهم عدوّ يخافون تمكّنه، فلا يمكنهم الاستئذان، فيسقط الإذن باقتضاء قتالهم، والخروج إليهم لحصول الفساد بتركهم انتظارا للإذن. ودليل ذلك أنّه «لمّا أغار الكفّار على لقاح النّبيّ صلى الله عليه وسلم صادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة فتبعهم وقاتلهم من غير إذن، فمدحه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: خير رجالتنا سلمة بن الأكوع، وأعطاه سهم فارس وراجل».
15 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يغزى مع أمير جيش ولو كان جائراً ارتكاباً لأخفّ الضّررين، ولأنّ ترك الجهاد معه سوف يفضي إلى قطع الجهاد، وظهور الكفّار على المسلمين، واستئصالهم وظهور كلمة الكفر، ونصرة الدّين واجبة. وكذا مع ظالم في أحكامه، أو فاسق بجارحة، لا مع غادر ينقض العهد
أ - الإسلام: 16 - اتّفق الفقهاء على أنّ من شروط وجوب الجهاد: الإسلام، لأنّه من شروط وجوب سائر الفروع ; ولأنّ الكافر غير مأمون في الجهاد، ولا يأذن له الإمام بالخروج مع جيش المسلمين ; لما روت عائشة رضي الله عنها «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فقال له: تؤمن باللّه ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك». ولأنّ ما يخاف من الضّرر بحضوره أكثر ممّا يرجى من المنفعة، وهو لا يؤمن مكره وغائلته، لخبث طويّته، والحرب تقتضي المناصحة، والكافر ليس من أهلها. ب - العقل: 17 - المجنون غير مكلّف فلا يجب عليه الجهاد، ولا يتأتّى منه. ج - البلوغ: 18 - لا يجب الجهاد على الصّبيّ غير البالغ ضعيف البنية وهو غير مكلّف. ففي الصّحيحين عن «ابن عمر قال: عرضت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة». وقد «ردّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم بدر أسامة بن زيد والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرّابة بن أوس، فجعلهم حرسا للذّراريّ والنّساء». ولأنّ الجهاد عبادة تتعلّق بالبدن فلا يجب على الصّبيّ والمجنون، كالصّوم والصّلاة والحجّ. د - الذّكورة: 19 - تشترط الذّكورة لوجوب الجهاد، لما روت «عائشة قالت: يا رسول اللّه، هل على النّساء جهاد؟ فقال: جهاد لا قتال فيه: الحجّ والعمرة». وعلى ذلك فلا يجب عليهنّ الجهاد ما لم يتعيّن في الأحوال الثّلاثة المتقدّمة. أمّا إخراج النّساء مع المجاهدين فيكره في سريّة لا يؤمن عليها، لأنّ فيه تعريضهنّ للضّياع، ويمنعهنّ الإمام من الخروج للافتتان بهنّ، ولسن من أهل القتال لاستيلاء الخور والجبن عليهنّ، ولأنّه لا يؤمن ظفر العدوّ بهنّ، فيستحلّون منهنّ ما حرّم اللّه تعالى. وصرّح الحنابلة باستثناء امرأة الأمير لحاجته، أو امرأة طاعنة في السّنّ لمصلحة فقط، فإنّه يؤذن لمثلهما، لما روت الرّبيّع بنت معوّذ قالت: «كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم الماء، ونردّ الجرحى والقتلى إلى المدينة». ولكن لا بأس بإخراج النّساء مع المسلمين إذا كانوا عسكراً عظيماً يؤمن عليه، لأنّ الغالب السّلامة، والغالب كالمتحقّق. ولا يجب الجهاد على خنثى مشكل، لأنّه لا يعلم كونه ذكراً، فلا يجب مع الشّكّ في شرطه. هـ – القدرة على مؤنة الجهاد: 20 – يشترط لوجوب الجهاد القدرة على تحصيل السّلاح. وكذلك لا يجب على الفقير الّذي لا يجد ما ينفق في طريقه فاضلاً عن نفقة عياله، لقوله عزّ وجلّ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ}. فإن كان القتال على باب البلد أو حواليه وجب عليه، لأنّه لا يحتاج إلى نفقة الطّريق، وإن كان على مسافة تقصر فيها الصّلاة ولم يقدر على وسيلة تنقله لم يجب عليه، لقوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}. وإن بذل له الإمام ما يحتاج إليه من وسيلة نقل وجب عليه أن يقبل ويجاهد، لأنّ ما يعطيه الإمام حقّ له، وإن بذل له غير الإمام لم يلزمه قبوله. و - السّلامة من الضّرر: 21 - لا يجب الجهاد على العاجز غير المستطيع، لأنّ العجز ينفي الوجوب، والمستطيع هو الصّحيح في بدنه من المرض. ومن ثمّ فلا يخرج المريض الدّنف الّذي يمنعه مرضه من الرّكوب أو القتال، بأن تحصل له مشقّة لا تحتمل عادة. ولا يسقط وجوب الجهاد بالمرض إن كان يسيراً لا يمنعه، كوجع ضرس، وصداع خفيف، ونحوهما، لأنّه لا يتعذّر معهما الجهاد. وإن قدر على الخروج دون القتال فينبغي أن يخرج لتكثير السّواد إرهاباً. وكالمريض من له مريض لا متعهّد له غيره. ولا يخرج الأعمى، ولا الأعرج، ولا المقعد، ولا الأقطع، لأنّ هذه الأعذار تمنعهم من الجهاد، وقد قال اللّه تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ }. وقال: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ}. فأمّا الأعمى فمعروف أنّه لا يصلح للقتال فلم يجب عليه، وكالأعمى ذو رمد، وضعيف بصر لا يمكنه اتّقاء السّلاح، فإن كان يدرك الشّخص وما يتّقيه من السّلاح وجب عليه، لأنّه يقدر على القتال، وإن لم يدرك ذلك لم يجب عليه، لأنّه لا يقدر على القتال. ويجب على الأعور والأعشى، وهو الّذي يبصر في النّهار دون اللّيل، لأنّه كالبصير في القتال. وأمّا العرج فالمقصود به العرج الفاحش الّذي يمنع المشي الجيّد والرّكوب كالزّمانة ونحوها، وهو عرج بيّن، ولو كان في رجل واحدة، فإذا كان يسيراً يتمكّن معه من الرّكوب والمشي، وإن تعذّر عليه شدّة العدوّ، فلا يمنع ذلك وجوب الجهاد، لأنّه ممكن فشابه الأعور. ومثل الأعرج الأقطع والأشلّ ولو لمعظم أصابع يد واحدة، إذ لا بطش لهما ولا نكاية، ومثلهما فاقد الأنامل. ولا تأثير لقطع أصابع الرّجلين إذا أمكن معه المشي من غير عرج بيّن.
22 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يسنّ للإمام أو نائبه منع مخذّل ومرجف من الخروج وحضور الصّفّ وإخراجه منه ما لم يخش فتنة، بل يتّجه وجوب ذلك عليه حيث غلب على ظنّه حصول ذلك منه وأنّ بقاءه مضرّ بغيره. والمخذّل من يصدّ غيره عن الغزو ويزهّدهم في الخروج إليه مثل أن يقول: الحرّ أو البرد شديد، والمشقّة شديدة، ولا تؤمن هزيمة الجيش وأشباه هذا. يقول اللّه عزّ وجلّ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}. قيل في التّفسير: لأوقعوا بينكم الاختلاف، وقيل: لأسرعوا في تفريق جمعكم. والمرجف هو الّذي يقول: هلكت سريّة المسلمين وما لهم مدد ولا طاقة لهم بالكفّار ونحو هذا، لقوله تعالى: {وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}. ولا يأذن لمن يعين على المسلمين بالتّجسّس للكفّار، وإطلاعهم على عورات المسلمين، ومكاتبتهم بأخبارهم، ودلالتهم على عوراتهم، أو إيواء جواسيسهم، ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد: {وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ}، ولأنّ هؤلاء مضرّة على المسلمين فيلزمه منعهم. وإن خرج معه أحد هؤلاء لم يسهم له، ولم يرضخ، وإن أظهر عون المسلمين، لأنّه يحتمل أن يكون أظهره نفاقاً وقد ظهر دليله، فيكون مجرّد ضرر فلا يستحقّ ممّا غنموا شيئاً، وإن كان الأمير أحد هؤلاء لم يستحبّ الخروج معه، لأنّه إذا منع خروج المخذّل، والمرجف، والجاسوس ونحوهم، تبعا فمتبوعا أولى، ولأنّه لا تؤمن المضرّة على من صحبه. هذا، وكلّ عذر منع وجوب الحجّ منع وجوب الجهاد إلاّ خوف طريق من كفّار، فإنّه وإن منع وجوب الحجّ لا يمنع وجوب الجهاد، لأنّ مبنى الجهاد على ركوب المخاوف.
23 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يكره أخذ الجعل على الجهاد، ما دام للمسلمين فيء ; لأنّه لا ضرورة إليه، ومال بيت المال معدّ لنوائب المسلمين، والظّاهر أنّ الكراهة تحريميّة، لأنّ حقيقة الأجر على الطّاعة حرام، فما يشبهه مكروه. وقد نقل عن مالك كراهيته الشّديدة للقتال على جعل. وإن لم يوجد شيء في بيت المال لا يكره الجعل للضّرورة، وهو دفع الضّرر الأعلى - أي تعدّي شرّ الكفّار إلى المسلمين - بالأدنى وهو الجعل قال ابن عابدين: فيلتزم الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ. إلاّ أنّ المالكيّة يشترطون في جواز الجعل أن تكون الخرجة واحدة، كأن يقول الجاعل للخارج عنه: أجاعلك بكذا على أن تخرج بدلا عنّي في هذه السّنة، أمّا لو تعاقد معه على أنّه كلّما حصل الخروج للجهاد خرج نائباً عنه فلا يجوز لقوّة الغرر، فالمراد بالخرجة المرّة من الخروج. وكذلك من قدر على الجهاد بنفسه وماله لزمه، ولا ينبغي له أخذ الجعل. وإذا قال القاعد للغازي، خذ هذا المال لتغزو به عنّي لا يجوز، لأنّه استئجار على الجهاد، بخلاف قوله: فاغز به. ويرى الشّافعيّة أنّه لا يجاهد أحد عن أحد بعوض، أو غير عوض، لأنّه إذا حضر القتال تعيّن عليه الفرض في حقّ نفسه فلا يؤدّيه عن غيره. ولا يصحّ من الإمام أو غيره استئجار مسلم للجهاد، لأنّه يقع عن المباشر عن نفسه دون غيره. وما يأخذه المجاهدون من الدّيوان من الفيء، وما يأخذه المتطوّع من الزّكاة إعانة لا أجرة. ومن أكره على الغزو لا أجرة له إن تعيّن عليه، وإلاّ استحقّها من خروجه إلى حضوره الواقعة. أمّا الحنابلة فقد قال الخرقيّ: إذا استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم وأعطوا ما استؤجروا به. قال ابن قدامة: نصّ أحمد على هذا في رواية جماعة، فقال في رواية عبد اللّه وحنبل: في الإمام يستأجر قوما يدخل بهم بلاد العدوّ لا يسهم لهم، ويوفّي لهم بما استؤجروا عليه، وقال القاضي: هذا محمول على استئجار من لا يجب عليه الجهاد كالعبيد والكفّار. أمّا الرّجال المسلمون الأحرار فلا يصحّ استئجارهم على الجهاد، لأنّ الغزو يتعيّن بحضور الغزو على من كان من أهله، فإذا تعيّن عليه الفرض لم يجز أن يفعله عن غيره، كمن عليه حجّة الإسلام لا يجوز أن يحجّ عن غيره. ثمّ قال ابن قدامة: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد والخرقيّ على ظاهره في صحّة الاستئجار على الغزو لمن لم يتعيّن عليه، لما روى أبو داود بإسناده عن عبد اللّه بن عمرو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «للغازي أجره وللجاعل أجره». وروى سعيد بن منصور عن جبير بن نفير قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «مثل الّذين يغزون من أمّتي ويأخذون الجعل، ويتقوّون به على عدوّهم، مثل أمّ موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» ولأنّه أمر لا يختصّ فاعله أن يكون من أهل القربة فصحّ الاستئجار عليه كبناء المساجد، أو لم يتعيّن عليه الجهاد فصحّ أن يؤجّر نفسه عليه كالعبد، ويفارق الحجّ حيث إنّه ليس بفرض عين، وأنّ الحاجة داعية إليه، وفي المنع من أخذ الجعل عليه تعطيل له ومنع له ممّا فيه للمسلمين نفع وبهم إليه حاجة، فينبغي أن يجوز بخلاف الحجّ. وأمّا الاستفادة من الجعل عند من قال به في غير الجهاد، فقد صرّح الحنفيّة بأنّه يجوز للغازي أن يترك بعض الجعل لنفقة عياله، لأنّه لا يتهيّأ له الخروج إلاّ به. وقال الحنابلة: لا يترك لأهله منه شيئا، لأنّه ليس بملكه إلاّ أن يصل إلى رأس مغزاه فيكون كماله، فيبعث إلى عياله منه، ولا يتصرّف فيه قبل الخروج لئلاّ يتخلّف عن الغزو، فلا يكون مستحقّا لما أنفقه، إلاّ أن يشتري منه سلاحاً أو آلة للغزو. ومن أعطي شيئاً من المال يستعين به في غزوة بعينها فما فضل بعدها فهو له، كما صرّح به الحنابلة، وإليه ذهب عطاء ومجاهد، وسعيد بن المسيّب، وكان ابن عمر إذا أعطى شيئا في الغزو يقول لصاحبه: إذا بلغت وادي القرى فشأنك به. ولأنّه أعطاه على سبيل المعاونة والنّفقة، لا على سبيل الإجارة، فكان الفاضل له، وإن أعطاه شيئا لينفقه في الغزو مطلقا، ففضل منه فضل، أنفقه في غزوة أخرى، لأنّه أعطاه الجميع لينفقه في جهة قربة فلزمه إنفاق الجميع فيها.
24 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصنا دعوا الكفّار إلى الإسلام، لقول ابن عبّاس رضي الله عنه «ما قاتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوماً حتّى دعاهم إلى الإسلام» فإن أجابوا كفّوا عن قتالهم لحصول المقصود، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّدا رسول اللّه، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّ الإسلام، وحسابهم على اللّه». وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية، وهذا في حقّ من تقبل منه الجزية، وأمّا من لا تقبل منه كالمرتدّين وعبدة الأوثان من العرب فلا فائدة في دعوتهم إلى قبول الجزية. وهذا في حقّ من لم تبلغه الرّسالة لقطع حجّتهم، لأنّه لا يلزمهم الإسلام قبل العلم، والدّليل عليه قوله عزّ وجلّ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، ولا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم، ولحديث بريدة: «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على جيش أو سريّة أمره بتقوى اللّه تعالى في خاصّة نفسه وبمن معه من المسلمين، وقال: إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثمّ ادعهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحوّلوا منها، فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم اللّه الّذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن باللّه وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة اللّه وذمّة نبيّه، فلا تجعل لهم ذمّة اللّه ولا ذمّة نبيّه، ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك، فإنّكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمّة اللّه وذمّة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّه، فلا تنزلهم على حكم اللّه، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنّك لا تدري أتصيب حكم اللّه فيهم». ولقوله صلى الله عليه وسلم في وصيّة أمراء الأجناد: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، ولأنّهم بالدّعوة يعلمون أنّا نقاتلهم على الدّين لا على سلب الأموال وسبي الذّراريّ، فلعلّهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال». قال المالكيّة: ودعوة الكفّار وجوباً إلى الإسلام تستمرّ ثلاثة أيّام في كلّ يوم مرّة، فإذا دعوا أوّل الثّالث قوتلوا في أوّل الرّابع بعد دعوتهم فيه لأداء الجزية وامتناعهم، ولا تجب دعوتهم للإسلام لا في بقيّة الثّالث، ولا في أوّل الرّابع. ثمّ إن أبوا قبول الإسلام دعوا إلى أداء الجزية مرّة واحدة في أوّل اليوم الرّابع إجمالاً، إلاّ أن يسألوا عن تفصيلها بمحلّ يؤمن فيه غدرهم لكونهم تنالهم فيه أحكامنا، وإلاّ بأن لم يجيبوا أو أجابوا ولكن بمحلّ لا تنالهم أحكامنا فيه، ولم يرتحلوا لبلادنا قوتلوا وقتلوا. ولو قاتلهم المسلمون قبل الدّعوة أثموا للنّهي، ولا يضمن المسلمون شيئا ممّا أتلفوه من الدّماء والأموال عند الحنفيّة مع الإثم، وهذا لعدم العاصم وهو الدّين، أو الإحراز بالدّار، فصار كقتل النّسوان والصّبيان. هذا في حقّ من لم تبلغه الدّعوة من عبدة الأوثان وغيرهم، وكذلك إن وجد من أهل الكتاب من لم تبلغه الدّعوة دعوا قبل القتال. أمّا من بلغته الدّعوة من أهل الكتاب والمجوس، فإنّه لا تجب دعوتهم، لأنّ الدّعوة قد انتشرت وعمّت، فلم يبق منهم من لم تبلغه الدّعوة إلاّ نادر بعيد. ذكر ابن عابدين نقلا عن الفتح: أنّ المدار على غلبة الظّنّ بأنّ هؤلاء لم تبلغهم الدّعوة. قال أحمد: إنّ الدّعوة قد بلغت وانتشرت، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الرّوم وخلف التّرك على هذه الصّفة لم يجز قتالهم قبل الدّعوة، وذلك لما روى بريدة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال...» الحديث. وقال مالك: أمّا من قارب الدّروب فالدّعوة مطروحة لعلمهم بما يدعون إليه، وما هم عليه من البغض والعداوة للدّين وأهله، ومن طول معارضتهم للجيوش ومحاربتهم لهم، فلتطلب غرّتهم. ولا تحدث لهم الدّعوة إلاّ تحذيرا وأخذ عدّة لمحاربة المسلمين، ومنعا لما رجاه المسلمون من الظّهور عليهم. قال مالك: إذا عاجلك أهل الحرب عن أن تدعوهم فقاتلهم، وسئل عن قوم أتوا إلى قوم في ديارهم فأرادوا قتلهم وأخذ أموالهم. قال مالك: ناشدوهم باللّه فإن أبوا وإلاّ فالسّيف. وقال يحيى بن سعيد: لا بأس بابتغاء عورة العدوّ ليلاً ونهاراً، لأنّ دعوة الإسلام قد بلغتهم، وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث إلى خيبر فقتلوا أميرهم ابن أبي الحقيق غيلة، وكذلك يفعل بقوم إن جلست بأرضك أتوك، وإن سرت إليهم قاتلوك. وروى ابن وهب عن ربيعة أنّه قال: إن كان عدوّ لم تبلغه الدّعوة ولا أمر النّبوّة، فإنّهم يدعون ويعرض عليهم الإسلام، وتسير إليهم الأمثال، وتضرب لهم العبر، ويتلى عليهم القرآن، حتّى إذا بلغ العذر في دعائهم وأبوا طلبت عورتهم، والتمست غفلتهم، وكان الدّعاء فيمن أعذر إليهم في ذلك بعد الإعذار تحذيرا لهم، وفي هذا ضرر على المسلمين. قال ابن قدامة من الحنابلة: إنّ وجوب الدّعوة قبل القتال يحتمل أنّه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدّعوة وظهور الإسلام، فأمّا اليوم فقد انتشرت الدّعوة، فاستغني بذلك عن الدّعاء عند القتال. قال أحمد: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب، حتّى أظهر اللّه الدّين وعلا الإسلام، ولا أعرف اليوم أحداً يدعى، قد بلغت الدّعوة كلّ أحد، فالرّوم قد بلغتهم الدّعوة وعلموا ما يراد منهم، وإنّما كانت الدّعوة في أوّل الإسلام. ولكن إذا دعي من بلغتهم الدّعوة فلا بأس. ويستحبّ ذلك مبالغة في الإنذار لما روى سهل بن سعد قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعليّ يوم خيبر: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام»، إلاّ إذا تضمّنت دعوتهم ضرراً ولو بغلبة الظّنّ كأن يستعدّوا أو يتحصّنوا فلا يفعل. ولكن دعوتهم ليست واجبة، لأنّه صحّ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون»، والغارة لا تكون بدعوة. وقيّد ابن القيّم وجوب الدّعوة لمن لم تبلغه، واستحبابها لمن بلغته بما إذا قصدهم المسلمون، أمّا إذا كان الكفّار قاصدين المسلمين بالقتال فللمسلمين قتالهم من غير دعوة دفعاً عن نفوسهم وحريمهم.
25 - الأصل أنّ إعطاء الأمان للكفّار من الإمام أو آحاد المسلمين أو طلبه مباح، وقد يكون حراماً أو مكروهاً إذا كان يؤدّي إلى ضرر أو إخلال بواجب أو مندوب. وحكم الأمان ثبوت الأمن للكفرة عن القتل والسّبي، وغنم أموالهم، فيحرم بوجود الأمان قتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريّهم، واغتنام أموالهم. وتفصيل ذلك في مصطلحي: (أمان، ومستأمن).
26 - اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بغير المسلمين على قتال العدوّ: فذهب الحنفيّة والحنابلة في الصّحيح من المذهب والشّافعيّة ما عدا ابن المنذر، وابن حبيب من المالكيّة، وهو رواية عن الإمام مالك إلى جواز الاستعانة بغير المسلم عند الحاجة. وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يشترط أن يعرف الإمام حسن رأيهم من المسلمين، ويأمن خيانتهم، وصرّح الشّافعيّة أن يكثر المسلمون بحيث لو خان المستعان بهم وانضمّوا إلى الّذين يغزونهم، أمكنهم مقاومتهم جميعاً. وشرط الماورديّ: أن يخالفوا معتقد العدوّ. وعند المالكيّة - ما عدا ابن حبيب - وجماعة من أهل العلم منهم ابن المنذر، والجوزجانيّ: لا تجوز الاستعانة بمشرك. وتفصيل الاستعانة بغير المسلمين قد سبق ذكره في: (استعانة) وفي: (أهل الكتاب). أمّا استئجار الكافر للجهاد فقد صرّح الشّافعيّة بأنّه يصحّ استئجار ذمّيّ، ومستأمن، ومعاهد، بل حربيّ للجهاد من قبل الإمام، حيث تجوز الاستعانة به من خمس الخمس دون غيره أي من الغنيمة، لأنّ الجهاد لا يقع عنه فلا يأخذ من الغنيمة، ولأنّه يحتمل في معاقدة الكفّار ما لا يحتمل في معاقدة المسلمين، وليس لغير الإمام ذلك، لاحتياج الجهاد إلى مزيد من نظر واجتهاد.
أ - القتال في الأشهر الحرم: 27 - الأشهر الحرم هي رجب، وذو القعدة، وذو الحجّة، ومحرّم. وكان البدء بالقتال في هذه الأشهر في أوّل الإسلام محرّماً بقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ}، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}. وأمّا بعد ذلك فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ بدء القتال في الأشهر الحرم منسوخ كما نصّ عليه أحمد، وناسخه قوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} وبغزوه صلى الله عليه وسلم الطّائف في ذي القعدة. والقول الآخر: أنّه لا يزال محرّماً، ودليله حديث جابر «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يغزو في الشّهر الحرام إلاّ أن يغزى، فإذا حضره أقام حتّى ينسلخ». وأمّا القتال في الشّهر الحرام دفعا فيجوز إجماعا من غير خلاف. ب - منع إخراج المصحف وكتب الشّرع في الجهاد: 28 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز السّفر بالمصحف إلى دار الحرب، والغزو به، كما روى ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن فإنّي لا آمن أن يناله العدوّ»، ولأنّ إخراج ذلك يؤدّي إلى وقوعه في يد العدوّ، وفي ذلك تعريض لاستخفافهم به وهو حرام، فما أدّى إليه فهو حرام. ولكن لا يكره عند الحنفيّة إخراج المصحف في جيش يؤمن عليه، وأقلّه عند الإمام أربعمائة، وقال ابن الهمام: ينبغي أن يكون العسكر العظيم اثني عشر ألفاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلّة». وصرّح المالكيّة بأنّه يحرم السّفر بالمصحف لأرضهم ولو مع جيش كبير، وقاس بعض الفقهاء على المصحف كتب الفقه والحديث. وإذا دخل مسلم إليهم بأمان جاز حمل المصحف معه إذا كانوا يوفون بالعهد، لأنّ الظّاهر عدم تعرّضهم له. فإذا لم يكن أمان، فإنّه يحرم إرسال المصحف إليهم ولو طلبوه ليتدبّروه خشية إهانتهم له، ولا ينطبق هذا على الكتاب الّذي فيه الآية ونحوها. ج - من لا يجوز قتله في الجهاد: 29 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز في الجهاد قتل النّساء، والصّبيان، والمجانين، والخنثى المشكل، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنّ امرأة وجدت في بعض مغازي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مقتولة، فنهى عن قتل النّساء والصّبيان». وكذلك لا يجوز قتل الشّيوخ عند جمهور الفقهاء، وبه قال مجاهد، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا امرأة»، ولما روي عن ابن عبّاس في قوله تعالى: {ولا تَعْتَدُوا} يقول:" لا تقتلوا النّساء والصّبيان، والشّيخ الكبير " وروي مثله عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ولأنّه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة، وقد أومأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه العلّة في المرأة الّتي وجدت مقتولة في بعض مغازيه، «فقال: ما كانت هذه لتقاتل». وقال الشّافعيّة في الأظهر وابن المنذر: يجوز قتل الشّيوخ، لعموم قوله تعالى: {فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ} ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم». ولأنّهم أحرار مكلّفون فجاز قتلهم كغيرهم. والخلاف في قتل الزّمن والأعمى ومن في معناهما كيابس الشّقّ، ومقطوع اليمنى، أو المقطوع من خلاف، كالخلاف في الشّيخ. ولا يقتل الرّاهب في صومعته، ولا أهل الكنائس الّذين لا يخالطون النّاس، فإن خالطوا قتلوا كالقسّيس، ولا سائح في الجبال لا يخالط النّاس. والّذي يجنّ ويفيق، يقتل في حال إفاقته وإن لم يقاتل. وصرّح الحنابلة بأنّ المريض يقتل إذا كان ممّن لو كان صحيحاً قاتل، لأنّه بمنزلة الإجهاز على الجريح، إلاّ أن يكون مأيوسا من برئه، فيكون بمنزلة الزّمن لا يقتل، لأنّه لا يخاف منه أن يصير إلى حال يقاتل فيها. وكذلك الفلّاح الّذي لا يقاتل، وبه قال الأوزاعيّ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: " اتّقوا اللّه في الفلّاحين الّذين لا ينصبون لكم الحرب ". وعند الشّافعيّة يقتل، لدخوله في عموم المشركين. وصرّح بعض الفقهاء بأنّه لا يجوز قتل رسول الكفّار. ويجوز قتل من قاتل ممّن ذكرنا ولو امرأة، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة طرحت الرّحا على خلّاد بن سويد فقتلته». قال ابن قدامة: ولا نعلم في ذلك خلافا، وبه قال الأوزاعيّ، والثّوريّ واللّيث، لقول ابن عبّاس: «مرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم الخندق، فقال: من قتل هذه؟ قال رجل: أنا يا رسول اللّه. قال: ولم؟ قال: نازعتني قائم سيفي. قال: فسكت». ولأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقف على امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل» وهذا يدلّ على أنّه إنّما نهى عن قتل المرأة إذا لم تقاتل. وكذلك يقتل كلّ من هؤلاء إذا كان ملكا، أو ذا رأي يعين في الحرب، لأنّ دريد بن الصّمّة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه، وكانوا خرجوا به يتيمّنون به ويستعينون برأيه، فلم ينكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم قتله، ولأنّ الرّأي من أعظم المعونة في الحرب. أمّا الأخرس والأصمّ، وأقطع اليد اليسرى، أو إحدى الرّجلين فيقتل، لأنّه يمكن أن يقاتل راكباً. ولو قتل من لا يحلّ قتله ممّن ذكر، فعليه التّوبة والاستغفار فقط كسائر المعاصي، ولا شيء عليه من دية ولا كفّارة، لأنّ دم الكافر لا يتقوّم إلاّ بالأمان، ولم يوجد. وينظر تفصيل ذلك في: (جزية). د - قتل القريب: 30 - اختلفت آراء الفقهاء في قتل القريب أثناء المحاربة مع الكفّار: فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يحلّ للفرع أن يبدأ بقتل أصله المشرك، بل يشغله بالمحاربة، لقوله تعالى: {وَصَاحِبهما في الدُّنيا مَعْرُوفَاً}، ولأنّه يجب عليه إحياؤه بالإنفاق عليه فيناقضه الإطلاق في إفنائه، فإن أدركه امتنع عليه حتّى يقتله غيره، لأنّ المقصود يحصل بغيره من غير اقتحامه المأثم. وأمّا إن قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلاّ بقتله فلا بأس به، لأنّ مقصوده الدّفع وهو يجوز مطلقاً، ولأنّه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه، ولا يمكنه دفعه إلاّ بقتله، يقتله، فهذا أولى. وصرّح الشّافعيّة بأنّه يكره تنزيها لغاز أن يقتل قريبه، لأنّ فيه نوعا من قطع الرّحم، وقتل قريب محرم أشدّ كراهة، «لأنّه صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر من قتل ابنه عبد الرّحمن يوم أحد». إلاّ أن يسمعه يسبّ اللّه تعالى، أو يذكره أو يذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو نبيّاً من الأنبياء بسوء، فإذا سمع ذلك أو علمه منه فلا كراهة حينئذ في قتله تقديما لحقّ اللّه تعالى وحقّ أنبيائه، وإليه مال الحنفيّة أيضاً، لأنّ أبا عبيدة قتل أباه، وقال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: سمعته يسبّك ولم ينكره عليه. هـ – الغدر، والغلول، والمثلة: 31 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يحرم في الجهاد الغدر والغلول، والتّمثيل بالقتلى، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا». والغلول في الجهاد الخيانة في المغنم بأن يخفي ما وقع في يده، فلا يحلّ لأحد أن يأخذ لنفسه ممّا غنم شيئا، خيطا فما فوقه، بل يضمّه إلى المغانم. وأمّا ما يحتاج إليه من الطّعام وعلف الدّوابّ والسّلاح، فهو جائز عند الحاجة. وفي المسألة تفصيل ينظر في (غنيمة) (وغلول). والغدر: الخيانة ونقض العهد. وكلّ ذلك محرّم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }، لكن إن نقض الكفّار العهد جاز قتالهم من غير نبذ إليهم، أمّا إن بدت من الكفّار أمارات نقض العهد جاز نبذ العهد إليهم لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلحات: (عهد) و (معاهدة) و (أمان). أمّا المثلة فهي العقوبة الشّنيعة من مثل قطع الأنف، والأذن، ونحو ذلك، وهي ما كانت ابتداء على غير جزاء، ولكن لو أنّ شخصاً جنى على قوم جنايات في أعضاء متعدّدة، فاقتصّ منه، لما كان التّشويه الّذي حصل له من المثلة. وحاصل هذا أنّ المثلة بمن مثّل جزاء، ثابت وفيه خلاف وتفصيل، والمثلة بمن استحقّ القتل لا عن مثلة لا تحلّ. وتأسيساً على ذلك فإنّه لا بأس بحمل رأس المشرك لو فيه غيظهم وفيه فراغ قلوبنا باندفاع شرّه. واختلف الفقهاء في حمل رءوس قتلى الكفّار من بلد إلى آخر بين مجيز ومحرّم، ينظر تفصيله في مصطلح: (مثلة). و - تحريق العدوّ بالنّار، وتغريقه بالماء، ورميه بالمنجنيق: 32 - قال ابن قدامة: إذا قدر على العدوّ فلا يجوز تحريقه بالنّار بغير خلاف، لحديث أبي هريرة أنّه قال: «بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنّار. ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إنّي أمرتكم أن تحرّقوا فلاناً وفلاناً، وإنّ النّار لا يعذّب بها إلاّ اللّه،فإن وجدتموهما فاقتلوهما». فأمّا رميهم قبل أخذهم بالنّار، فإن أمكن أخذهم بدونها لم يجز رميهم بها، لأنّهم في معنى المقدور عليه، وأمّا عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم، وبه قال الثّوريّ، والأوزاعيّ، والحنابلة، وكذلك لا يجوز عندهم تغريق العدوّ بالماء، إذا قدر عليهم بغيره. 33 - وأمّا حصار القلاع: فقال الحنفيّة والشّافعيّة: يجوز حصار الكفّار في البلاد والقلاع، وإرسال الماء عليهم، وقطعه عنهم، ورميهم بنار ومنجنيق وغيرهما، لقوله تعالى: {وخُذُوهم واحْصُرُوهم} «ولأنّه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطّائف، ورماهم بالمنجنيق». وقيس به ما في معناه ممّا يعمّ به الهلاك، ووافق أحمد الحنفيّة والشّافعيّة في جواز رميهم بالمنجنيق مع الحاجة وعدمها، وبه قال الثّوريّ والأوزاعيّ وابن المنذر. وفصّل المالكيّة القول فقالوا: يقاتل العدوّ بالحصن بغير تحريق وتغريق إذا كانوا مع مسلمين، أو ذرّيّة أو نساء، ولم يخف على المسلمين، ويرمون بالمنجنيق، ولو مع ذرّيّة، أو نساء، أو مسلمين. وذهب الحنابلة إلى أنّه إن قدر عليهم بغير الغرق لم يجز إذا تضمّن ذلك إتلاف النّساء والذّرّيّة الّذين يحرم إتلافهم قصداً، وإن لم يقدر عليهم إلاّ به جاز. وإذا حاصر الإمام حصنا لزمته مصابرته، ولا ينصرف عنه إلاّ في إحدى الحالات الآتية: 1 - أن يسلّموا فيحرزوا بالإسلام دماءهم وأموالهم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها». 2 - أن يبذلوا مالا على الموادعة، فيجوز قبوله منهم، سواء أعطوه جملة، أو جعلوه خراجا مستمرّا يؤخذ منهم كلّ عام، فإن كانوا ممّن تقبل منهم الجزية فبذلوها لزمه قبولها ; لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. وإن بذلوا مالا على غير وجه الجزية فرأى المصلحة في قبوله قبله، ولا يلزمه قبوله إذا لم ير المصلحة في ذلك. 3 - أن يفتحه. 4 - أن يرى المصلحة في الانصراف عنه، إمّا لضرر الإقامة، وإمّا لليأس منه، وإمّا لمصلحة ينتهزها، تفوت بإقامته، فينصرف عنه، لما روي أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطّائف فلم ينل منهم شيئاً،فقال: إنّا قافلون إن شاء اللّه تعالى غداً...». 5- أن ينزلوا على حكم حاكم، فيجوز، لما روي عن «النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه لمّا حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك». قال ابن قدامة: ويشترط أن يكون الحاكم حرّاً مسلماً عاقلاً بالغاً ذكراً عدلاً فقيها كما يشترط في حاكم المسلمين، ويجوز أن يكون أعمى، لأنّ عدم البصر لا يضرّ هنا، لأنّ المقصود رأيه ومعرفة المصلحة، ولا يضرّ عدم البصر فيه، بخلاف القضاء، فإنّه لا يستغني عن البصر ليعرف المدّعي من المدّعى عليه، والشّاهد من المشهود له والمشهود عليه، والمقرّ له من المقرّ، ويعتبر من الفقه هاهنا ما يتعلّق بهذا الحكم ممّا يجوز فيه ويعتبر له ونحو ذلك، ولا يعتبر فقهه في جميع الأحكام الّتي لا تعلّق لها بهذا. ولهذا حكم سعد بن معاذ ولم يثبت أنّه كان عالماً بجميع الأحكام. وإذا حكّموا رجلين جاز، ويكون الحكم ما اتّفقا عليه، وإن جعلوا الحكم إلى رجل يعيّنه الإمام جاز، لأنّه لا يختار إلاّ من يصلح، وإن نزلوا على حكم رجل منهم أو جعلوا التّعيين إليهم لم يجز، لأنّهم ربّما اختاروا من لا يصلح، وإن عيّنوا رجلا يصلح فرضيه الإمام جاز، لأنّ «بني قريظة رضوا بحكم سعد بن معاذ وعيّنوه فرضيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأجاز حكمه وقال: لقد حكمت فيهم بحكم اللّه». وإن مات من اتّفقوا عليه فاتّفقوا على غيره ممّن يصلح قام مقامه، وإن لم يتّفقوا على من يقوم مقامه، أو طلبوا حكماً لا يصلح، ردّوا إلى مأمنهم، وكانوا على الحصار حتّى يتّفقوا، وكذلك إن رضوا باثنين فمات أحدهما فاتّفقوا على من يقوم مقامه جاز، وإلاّ ردّوا إلى مأمنهم، وكذلك إن رضوا بتحكيم من لم تجتمع الشّرائط فيه ووافقهم الإمام عليه. ثمّ بان أنّه لا يصلح لم يحكم، ويردّون إلى مأمنهم كما كانوا. 34 - وأمّا صفة الحكم: فإن حكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريّهم نفذ حكمه، لأنّ «سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بذلك، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم اللّه تعالى من فوق سبعة أرقعة» وإن حكم بالمنّ على المقاتلة وسبي الذّرّيّة، فقال القاضي يلزم حكمه، وهو مذهب الشّافعيّ، لأنّ الحكم إليه فيما يرى المصلحة فيه، فكان له المنّ كالإمام في الأسير. واختار أبو الخطّاب أنّ حكمه لا يلزم، لأنّ عليه أن يحكم بما فيه الحظّ، ولا حظّ للمسلمين في المنّ، وإن حكم بالمنّ على الذّرّيّة، فينبغي أن لا يجوز، لأنّ الإمام لا يملك المنّ على الذّرّيّة إذا سبوا فكذلك الحاكم، ويحتمل الجواز لأنّ هؤلاء لم يتعيّن السّبي فيهم بخلاف من سبي فإنّه يصير رقيقا بنفس السّبي، وإن حكم عليهم بالفداء جاز، لأنّ الإمام يخيّر في الأسرى بين القتل، والفداء، والاسترقاق، والمنّ، فكذلك الحاكم، وإن حكم عليهم بإعطاء الجزية لم يلزم حكمه، لأنّ عقد الذّمّة عقد معاوضة فلا يثبت إلاّ بالتّراضي، ولذلك لا يملك الإمام إجبار الأسير على إعطاء الجزية، وإن حكم بالقتل والسّبي جاز للإمام المنّ على بعضهم، لأنّ «ثابت بن قيس سأل في الزّبير بن باطا من قريظة وماله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأجابه». ويخالف مال الغنيمة إذا حازه المسلمون، لأنّ ملكهم استقرّ عليه، وإن أسلموا قبل الحكم عليهم عصموا دماءهم وأموالهم، لأنّهم أسلموا وهم أحرار، وأموالهم لهم فلم يجز استرقاقهم، بخلاف الأسير، فإنّ الأسير قد ثبتت اليد عليه كما تثبت على الذّرّيّة، ولذلك جاز استرقاقه. وإن أسلموا بعد الحكم عليهم نظرت، فإن كان قد حكم عليهم بالقتل سقط لأنّ من أسلم فقد عصم دمه ولم يجز استرقاقهم، لأنّهم أسلموا قبل استرقاقهم، قال أبو الخطّاب: ويحتمل جواز استرقاقهم. كما لو أسلموا بعد الأسر، ويكون المال على ما حكم فيه، وإن حكم بأنّ المال للمسلمين كان غنيمة، لأنّهم أخذوه بالقهر والحصر. ز - إتلاف الأموال: 35 - إذا استعدّ الكفّار أو تحصّنوا لقتال المسلمين، فإنّنا نستعين باللّه ونحاربهم لنظفر بهم، وإن أدّى ذلك إلى إتلاف أموالهم، إلاّ إذا غلب على الظّنّ الظّفر بهم من غير إتلاف لأموالهم فيكره فعل ذلك، لأنّه إفساد في غير محلّ الحاجة، وما أبيح إلاّ لها، لأنّ المقصود كسر شوكتهم، وإلحاق الغيظ بهم، فإذا غلب على الظّنّ حصول ذلك بدون إتلاف، وأنّه يصير لنا لا نتلفه. وأمّا قطع شجرهم وزرعهم، فإنّ الشّجر والزّرع ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما تدعو الحاجة إلى إتلافه كالّذي يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم، أو يستترون به من المسلمين، أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق أو غيره، أو يكونون يفعلون ذلك بنا فيفعل بهم ذلك، لينتهوا، فهذا يجوز بغير خلاف. الثّاني: ما يتضرّر المسلمون بقطعه لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفتهم، أو يستظلّون به، أو يأكلون من ثمره، فهذا يحرم قطعه، لما فيه من الإضرار بالمسلمين. الثّالث: ما عدا هذين القسمين ممّا لا ضرر فيه بالمسلمين، ولا نفع سوى غيظ الكفّار والإضرار بهم، ففيه روايتان عند الحنابلة: إحداهما: يجوز، وبهذا قال مالك والشّافعيّ وغيرهما، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النّضير»، وقد قال اللّه تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}. والثّانية: لا يجوز. " لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قدم عليه ابن أخيه من غزوة غزاها، فقال: لعلّك حرقت حرثاً؟ قال: نعم، قال: لعلّك غرّقت نخلاً؟ قال: نعم، قال: لعلّك قتلت صبيّاً؟ قال: نعم، قال: لتكن غزوتك كفافاً ". ولأنّ في ذلك إتلافاً محضاً، فلم يجز كعقر الحيوان، وبهذا قال الأوزاعيّ واللّيث،وأبو ثور. وأمّا الحيوانات فلا خلاف في أنّه يجوز قتلها حالة الحرب، لأنّ قتل بهائمهم يتوصّل به إلى قتلهم وهزيمتهم، وصرّح المالكيّة بأنّ الأرجح وجوب حرق الحيوانات بعد قتلها إن استحلّوا أكل الميتة في دينهم، وقيل: إن كانوا يرجعون إليها قبل فسادها، وجب التّحريق، وإلاّ لم يجب ; لأنّ المقصود عدم انتفاعهم به وقد حصل. وأمّا في غير حالة الحرب: فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يجوز عقر دوابّهم، لأنّ فيه غيظا لهم وإضعافا لقوّتهم، فأشبه قتلها حال قتالهم. ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يجوز ذلك مطلقا، «لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان صبراً»، ولقول الصّدّيق ليزيد بن أبي سفيان وهو يوصيه: ولا تعقرنّ شجراً مثمراً، ولا دابّة عجماء ولا شاة إلاّ لمأكلة. ولأنّه إفساد يدخل في عموم قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}. ويجوز عقر الحيوانات للأكل إن كانت الحاجة داعية إلى ذلك، لأنّ الحاجة تبيح مال المعصوم، فمال الكافر أولى، وإن لم تكن الحاجة داعية إليه نظرنا: فإن كان الحيوان لا يراد إلاّ للأكل كالدّجاج، والحمام، وسائر الطّير، والصّيد، فحكمه حكم الطّعام، لأنّه لا يراد لغير الأكل، وتقلّ قيمته، فأشبه الطّعام، وإن كان ممّا يحتاج إليه في القتال لم يبح ذبحه إلاّ للأكل. 36 - وفي تغريق النّحل وتحريقه اختلف الفقهاء على أقوال: ذهب الشّافعيّة والحنابلة وعامّة أهل العلم منهم الأوزاعيّ واللّيث، إلى أنّه لا يجوز تغريق النّحل وتحريقه، لما روي عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنّه قال ليزيد بن أبي سفيان وهو يوصيه: ولا تحرّق نحلاً ولا تغرقنّه. ولأنّه إفساد فيدخل في عموم قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }. ولأنّه حيوان ذو روح، فلم يجز قتله لغيظ المشركين. ومقتضى مذهب الحنفيّة إباحته،لأنّ فيه غيظا لهم،وإضعافاً فأشبه قتل بهائمهم حال قتالهم. وفصّل المالكيّة القول فيه، فقالوا: إن قصد بإتلافها أخذ عسلها كان إتلافها جائزا قلّت أو كثرت اتّفاقا، وإن لم يقصد أخذ عسلها، فإن قلّت كره إتلافها، وإن كثر فيجوز في رواية مع الكراهة، وفي رواية لا يجوز، وإنّما جاز في حال الكثرة لما فيه من النّكاية لهم. ح - الفرار من الزّحف: 37 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجب الثّبات في الجهاد، ويحرم الفرار منه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} وقال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}. وقد عدّ رسول اللّه الفرار من الزّحف من السّبع الموبقات بقوله: «اجتنبوا السّبع الموبقات» ثمّ ذكر منها: «التّولّي يوم الزّحف». ثمّ اختلفوا في تفصيل ذلك: 38 - فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحرم الفرار، ويجب الثّبات بشرطين أحدهما:: أن يكون الكفّار لا يزيدون على ضعف المسلمين، فإن زادوا عليه جاز الفرار، لقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. والآية وإن كانت بلفظ الخبر فهو أمر، بدليل قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ} ولو كان خبراً على حقيقته لم يكن ردّنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفاً، ولأنّ خبر اللّه تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره، وقد علم أنّ الظّفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كلّ موطن يكون العدوّ فيه ضعف المسلمين فما دون، فعلم أنّه أمر وفرض، ولم يأت شيء ينسخ هذه الآية لا في كتاب ولا سنّة، فوجب الحكم بها. قال ابن عبّاس: نزلت {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فشقّ ذلك على المسلمين حين فرض اللّه عليهم ألاّ يفرّ واحد من عشرة، ثمّ جاء تخفيف فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ...}، فلمّا خفّف اللّه عنهم من العدد نقص من الصّبر بقدر ما خفّف من العدد. وقد قال ابن عبّاس: من فرّ من اثنين فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة فما فرّ، ويلزم المسلمين الثّبات وإن ظنّوا التّلف، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ، وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ...} قال المالكيّة: وهو ما ذكره ابن عابدين نقلا عن الخانيّة: إن بلغ المسلمون اثني عشر ألفاً حرم الفرار ولو كثر الكفّار جدّاً ما لم تختلف كلمتهم، فإنّه إذا اختلفت كلمتهم جاز الفرار مطلقا ولو بلغوا اثني عشر ألفاً. واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلّة». الشّرط الثّاني لوجوب الثّبات أن لا يقصد بفراره التّحيّز إلى فئة ولا التّحرّف لقتال، فإن قصد أحد هذين فالفرار مباح له، لقوله تعالى: {... إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ}. ومعنى التّحرّف للقتال أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن مثل أن ينحاز من مواجهة الشّمس أو الرّيح إلى استدبارهما، أو من نزلة إلى علوّ، أو من معطشة إلى موضع ماء، أو يفرّ بين أيديهم لتنتقض صفوفهم، أو تنفرد خيلهم من رجّالتهم، أو ليجد فيهم فرصة، أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك ممّا جرت به عادة أهل الحرب. وأمّا التّحيّز إلى فئة فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على عدوّهم، وسواء أبعدت المسافة أم قربت، فإن كانت الحرب بخراسان والفئة بالحجاز جاز التّحيّز إليها، لأنّ ابن عمر روى «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للّذين فرّوا إلى المدينة وهو فيها: أنتم العكّارون، أنا فئة المسلمين» وكانوا بمكان بعيد عنه. وفيه دليل على أنّ المتحيّز إلى فئة عكّار، وليس بفرّار من الزّحف، فلا يلحقه الوعيد. قال الدّسوقيّ: وقيل: إنّ التّحيّز إلى فئة يكون إذا قرب المنحاز إليه بأن يكون انحيازه إلى فئة خرج معها، أمّا لو خرجوا من بلد والأمير مقيم في بلدة فلا يجوز لأحد الفرار حتّى ينحاز إليه، وأمير الجيش لا يجوز له الفرار ولو على سبيل التّحيّز ولو أدّى لهلاك نفسه وبقاء الجيش من غير أمير، ما لم يعلم أنّ جميع الجيش يفرّ عند هلاكه.
39 - إذا كان العدوّ أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظنّ المسلمين الظّفر، فالأولى لهم الثّبات لما في ذلك من المصلحة، وإن انصرفوا جاز، لأنّهم لا يأمنون العطب والحكم معلّق على مظنّته، وهو كونهم أقلّ من نصف عددهم، ولذلك لزمهم الثّبات إذا كانوا أكثر من النّصف وإن غلب على ظنّهم الهلاك فيه. ويحتمل أن يلزمهم الثّبات إن غلب على ظنّهم الظّفر لما فيه من المصلحة. فإن غلب على ظنّهم أنّهم إن ثبتوا لمثليهم هلكوا ففيه وجهان: أحدهما: أنّ لهم أن يولّوا لقوله عزّ وجلّ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. والثّاني: أنّه ليس لهم أن يولّوا وهو الصّحيح لقوله عزّ وجلّ: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ} ولأنّ المجاهد إنّما يقاتل على إحدى الحسنيين الشّهادة أو الفوز بالغنيمة مع الأجر. قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}. وقد قال محمّد بن الحسن: لا بأس بالانهزام إذا أتى المسلم من العدوّ ما لا يطيقه، ولا بأس بالصّبر أيضاً بخلاف ما يقوله بعض النّاس من أنّه إلقاء بالنّفس إلى التّهلكة، بل في هذا تحقيق بذل النّفس في سبيل اللّه. وقال الحصكفيّ: فإن علم أنّه إذا حارب قتل وإن لم يحارب أسر لم يلزمه القتال. فإذا غلب على ظنّهم الهلاك في الإقامة والانصراف، فالأولى لهم الثّبات، لينالوا درجة الشّهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولّين، ولأنّه يجوز أن يغلبوا أيضا فإنّ اللّه تعالى يقول:{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. قال الشّافعيّة: إلاّ أنّه يحرم الانصراف لمائة بطل عن مائتين وواحد ضعفاء، ويجوز انصراف مائة ضعفاء عن مائة وتسعة وتسعين أبطالا في الأصحّ اعتبارا بالمعنى، بناء على أنّه يجوز أن يستنبط من النّصّ على حرمة الانصراف من الصّفّ معنى يخصّصه، لأنّهم يقاومونهم لو ثبتوا لهم، وإنّما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف، ومن ثمّ لم يختصّ الخلاف بزيادة الواحد ونقصه، ولا براكب وماش، بل الضّابط أن يكون في المسلمين من القوّة ما يغلب على الظّنّ أنّهم يقاومون الزّائد على مثليهم ويرجون الظّفر بهم، أو من الضّعف ما لا يقاومونهم، وحيث جاز الانصراف فإن غلب الهلاك بلا نكاية للكفّار وجب الانصراف، وإن غلب الهلاك على حصول النّكاية لهم يستحبّ الانصراف. وذهب الحنفيّة إلى أنّ الحكم في هذا الباب لغالب الرّأي، وأكبر الظّنّ دون العدد. فإن غلب على ظنّ الغزاة أنّهم يقاومونهم يلزمهم الثّبات، وإن كانوا أقلّ عددا منهم، وإن كان غالب ظنّهم أنّهم يغلبون فلا بأس أن ينحازوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم، وإن كانوا أكثر عددا من الكفرة. وكذا الواحد من الغزاة، ليس معه سلاح مع اثنين منهم معهما سلاح أو مع واحد منهم من الكفرة ومعه سلاح، لا بأس أن يولّي دبره متحيّزاً إلى فئة. قال محمّد بن الحسن: ويكره للواحد القويّ أن يفرّ من الكافرين، ويكره للمائة الفرار من المائتين، ولا بأس أن يفرّ الواحد من الثّلاثة، والمائة من ثلاثمائة.
40 - إن جاء العدوّ بلدا فقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ لأهله التّحصّن منهم، وإن كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد أو قوّة، ولا يكون ذلك تولّياً ولا فراراً، إنّما التّولّي بعد لقاء العدوّ، وإن لقوهم خارج الحصن فلهم التّحيّز إلى الحصن، لأنّه بمنزلة التّحرّف للقتال أو التّحيّز إلى فئة. وإن غزوا فذهبت دوابّهم، فليس ذلك عذراً في الفرار، لأنّ القتال ممكن للرّجّالة، وإن تحيّزوا إلى جبل ليقاتلوا فيه رجّالة فلا بأس، لأنّه تحرّف للقتال، وإن ذهب سلاحهم فتحيّزوا إلى مكان يمكنهم القتال فيه بالحجارة والتّستّر بالشّجر ونحوه، أو لهم في التّحيّز إليه فائدة، جاز.
41 - فإن ولّى قوم قبل إحراز الغنيمة وأحرزها الباقون، فقد صرّح الحنابلة بأنّه لا نصيب للفارّين، لأنّ إحرازها حصل بغيرهم فكان ملكها لمن أحرزها، وإن ذكروا أنّهم فرّوا متحيّزين إلى فئة أو متحرّفين للقتال، فلا شيء لهم أيضا لذلك، وإن فرّوا بعد إحراز الغنيمة لم يسقط حقّهم منها، لأنّهم ملكوا الغنيمة لحيازتها فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم. وتفصيل ذلك في مصطلح: (غنيمة).
42 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يجوز تبييت الكفّار وهو كبسهم ليلا وقتلهم على غفلة، ولو قتل في هذا التّبييت من لا يجوز قتله من امرأة وصبيّ، وغيرهما كمجنون، وشيخ فان إذا لم يقصدوا، لحديث الصّعب بن جثّامة قال: «سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل عن ديار المشركين يبيّتون فيصاب من نسائهم وذراريّهم فقال: هم منهم» وسبق تفصيل أحكام التّبييت في القتال في مصطلح (تبييت). وكذا يجوز قتل الكفّار في مطمورة إذا لم يقصد النّساء، والصّبيان ونحوهم، ويجوز قطع المياه عنهم وقطع السّابلة وإن تضمّن ذلك قتل الصّبيان والنّساء، لأنّه في معنى التّبييت السّابق فيه حديث الصّعب بن جثّامة ولأنّ القصد إضعافهم وإرهابهم ليجيبوا داعي اللّه، ويجوز الإغارة على علّافيهم وحطّابيهم ونحوهم.
43 - التّرس: بضمّ التّاء. ما يتوقّى به في الحرب. والتّرس كذلك خشبة أو حديدة توضع خلف الباب لإحكام إغلاقه، وقد أشير إلى التّترّس في الحرب في قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، فقد نزلت فيمن احتجز من المسلمين بمكّة بعد صلح الحديبية، ومنهم الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، وأبو جندل بن سهيل، ولو تميّز الكفّار عن المؤمنين بمكّة لعذّب اللّه الكفّار عذابا أليما بأيدي المؤمنين الّذين هم خارج مكّة بالرّمي والقتال الشّديد. وأمّا حكم التّترّس: فلا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجوز رمي الكفّار إذا تترّسوا بالمسلمين وأساراهم أثناء القتال، أو حصارهم من قبل المسلمين إذا دعت الضّرورة إلى ذلك بأن كان في الكفّ عن قتالهم انهزام للمسلمين والخوف على استئصال قاعدة الإسلام، ويقصد بالرّمي الكفّار. ولكن إذا لم تدع ضرورة إلى رميهم، لكون الحرب غير قائمة، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، فقد اختلف الفقهاء على أقوال سبق ذكرها في مصطلح " تترّس ".
44 - يقاتل أهل الكتاب والمجوس حتّى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لأنّه يجوز إقرارهم على دينهم بالجزية، ولقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فإن بذلوا الجزية عقدت لهم الذّمّة، وكان لهم بذلك الأمان والعصمة لدمائهم وأموالهم إلاّ بحقّها. ويقاتل من سواهم من الكفّار حتّى يسلموا، لأنّه لا يجوز إقرارهم على الكفر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه...» الحديث " والكفّار ثلاثة أقسام: قسم: أهل كتاب وهم اليهود والنّصارى، ومن اتّخذ التّوراة والإنجيل كتابا كالسّامرة والفرنجة ونحوهم، فهؤلاء تقبل منهم الجزية ويقرّون على دينهم إذا بذلوها. و قسم: لهم شبهة كتاب وهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم وإقرارهم بها، فعن الحسن بن محمّد بن عليّ قال: «كتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قبل منه، ومن أبى ضربت عليه الجزية، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح لهم امرأة». وقسم: لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، وهم من عدا هذين القسمين من عبدة الأوثان وسائر الكفّار، فلا تقبل منهم الجزية، ولا يقبل منهم سوى الإسلام. هذا مذهب الشّافعيّ، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة. أمّا مذهب أبي حنيفة وهو رواية عن أحمد فإنّ الجزية تقبل من جميع الكفّار إلاّ عبدة الأوثان من العرب، لأنّهم يقرّون على دينهم بالاسترقاق، فيقرّون ببذل الجزية كالمجوس، وحكي عن مالك أنّها تقبل من جميع الكفّار إلاّ كفّار قريش. وتفصيله في: (جزية). وينتهي القتال كذلك بالهدنة، إذ هي لغة المصالحة، وشرعاً هي عقد يتضمّن مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدّة بعوض أو غيره، وتسمّى موادعة، ومسالمة، ومعاهدة ومهادنة، والأصل فيها قبل الإجماع أوّل سورة " براءة " {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}، ومهادنته صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية. وعند الحنفيّة والمالكيّة وهو رواية عن أحمد تجوز الهدنة للمدّة الّتي يرى الإمام فيها المصلحة وإن زادت عن عشر سنين، قال المالكيّة: وندب أن لا تزيد عن أربعة أشهر. وعند الشّافعيّة لا يجوز مهادنة الكفّار سنة فما زاد، لأنّها مدّة تجب فيها الجزية، فلا يجوز إقرارهم فيها من غير جزية، وفي جواز مهادنتهم فيما زاد على أربعة أشهر وما دون سنة قولان وهذا في حال قوّة المسلمين. أمّا في حال ضعفهم فيجوز عقدها إلى عشر سنين. وظاهر كلام أحمد أنّها لا تجوز أكثر من عشر سنين، وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشّافعيّ لمصالحة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية عشراً. كما لا تجوز الهدنة إلاّ للنّظر للمسلمين إمّا أن يكون بهم ضعف عن قتال الكفّار، وإمّا أن يطمع في إسلام الكفّار بهدنتهم، أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملّة أو غير ذلك من المصالح، فإذا ثبت هذا فإنّه لا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدّة، لأنّه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلّيّة. وتفصيل ذلك في مصطلح: (هدنة).
45 - يجوز أن يذبح من الغنائم للأكل ما يؤكل لحمه وذلك لأنّه كسائر الطّعام، ولا يجوز أن يعمل من أهبها حذاء، ولا سقاء، ولا دلاء، ولا فراء، فإن اتّخذ منه شيئاً من ذلك وجب ردّه في المغنم. وإن أصابوا كلباً، فإن كان عقوراً قتل لما فيه من الضّرر، وإن كان فيه منفعة دفع إلى من ينتفع به من الغانمين أو من أهل الخمس، وإن لم يكن فيهم من يحتاج إليه خلّي لأنّ اقتناءه لغير حاجة محرّم. وما أصاب المسلمون من مال الكفّار وخيف أن يرجع إليهم ينظر فيه، فإن كان غير الحيوان أتلف حتّى لا ينتفعوا به ويتقوّوا به على المسلمين، وإن كان حيواناً لم يجز إتلافه من غير ضرورة. ومن قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه كما ورد في الحديث إذا قتله حال الحرب لا قبلها ولا بعدها، والسّلب ما كان على الكافر من ثياب وحليّ، وعمامة، وقلنسوة، وما كان عليه من سلاح وسيف، ورمح، وقوس، وهو أولى بالأخذ من الثّياب، لأنّه يستعين به في حربه، والدّابّة أيضا يستعان بها في الحرب كالسّلاح، وآلتها كالسّرج واللّجام تبع لها.
|